Publications
كتابة هذا البحر
نصوص تقاطع الأعمال الفنّيّة
ملك عفونة
يجد الفنّانون أنفسهم بحاجة إلى لغة مكتوبة من أجل عنونة أعمالهم الفنّيّة ووصفها أو تقديمها، وهناك من يشتبك منهم بعلاقة أعقد مع النصّ ويُدخله إلى بُنية العمل الفنّي، هذا التّجوال بين وظيفتين يكون النصّ في أحدهما مادّة دخيلة تقف حلقة وصل بين غموض العمل الفنّي وفهم المشاهد، أو مادّة أصيلة تكوّن عنصرًا من عناصر العمل الفنّيّ.
هنا تأمّلٌ في وظيفة الكلمات المرافقة للأعمال الفنّيّة، ومساءلةٌ حذرة للدّور الفعليّ الّذي وَجدت (اللّغة المكتوبة) نفسها تؤدّيه داخل أفضية الأعمال الفنّيّة أو على تخومها. إنّه مقارنة بين لغة تسير مع المرئيّ في درب واحد باتّجاه الفكرة، ولغة تمهد دربًا بديلًا أقل وعورة من الدّرب الّذي يمهّده العمل الفنّيّ أمام المشاهد/القارئ، وفي كلّ حالة يؤدّي النّصّ دورًا ربما يُثري العمل الفنّي، وربما يسلب منه، وربما يشتبك معه في علاقة غير مفهومة البتّة.
بيان أوّلي
نلاحظ ّكفًّا عن الاعتناء الشّديد بالفعل الكتابيّ إذا كان مرافقًا للحدث الفنّيّ، ولم يكن هو، بحدّ ذاته، الحدث، وإصرارًا على وضع النّصوص الّتي تصف الأعمال الفنّية في مرتبة أدنى من النّصوص الأدبيّة المستقلّة، ربما يرغمنا على ذلك حِسّنا العفويّ بأنّ العمل الفنّيّ فيه من التّعقيد ما يكفيه بالنّسبة للمتلقّي غير المتخصّص، ولذا وجب علينا أن نكتب عنه وله ببساطة، لكي نحرسه من العزلة وخشيةَ أن نضيف إليه سياجًا فكريًّا لغويًّا وراء سياجه الفكريّ الفنّيّ، إنّنا بهذا نخاطر أحيانًا بتقدير الفعلين، ونحرم العمل الفنّيّ الجيّد من رفيق لغويّ ندّ، يؤازره ويطلعه على عوالم جديدة لم يكن بمقدوره معايشتها دون هذه الرّفقة من أدواته التّأويليّة، وينتج معه حيّزًا أدبيًّا-فنّيًّا جديدًا، متيحًا الفرصة لظهور مساحات مثيرة من التّقاطعات بين المرئيّ والمكتوب. حين نكتب للفنّ ومعه، يمكننا التّفكير في عمل لغويّ موازٍ هو تجلٍ فنّيٌ آخر يقف بقوّة إلى جانب العمل الفنّيّ المرافق، فيشوّشه ويبعثره أو يكثّفه ويعقّده، ويفتح له المزيد من الآفاق ويجبر مداه على الاتّساع، بدلًا عن نصّ مادح أو قادح أو شارح، وهو نمط كتابيّ نصادفه كثيرًا.
أظنّ أنّ على الفنّ ألّا يتكئ باللّغة لينزل إلى المتلقّي، بل على المتلقّي (الذي سيصبح متفاعلًا بعد الممارسة) أن يصعد نحو الفنّ واللغة معًا.
مساءلة
إنّ 'الإيضاحات' الّتي تقدّمها النّصوص المختلفة داخل فضاء العمل الفنّي من عناوين ونصوص حائط ومعلومات مرافقة، كما لو كانت دليل استخدام لفهم المرئيّ؛ تحمل افتراضات ضمنيّة، لو صرّحت عنها لراودتنا شكوكٌ كثيرة حول إمكانيّة أن يلعب النّص دور المفسّر للعمل الفنّيّ، فهذا الدّور، إن حقَّ، قد يعني عدم الثّقة في قدرة المشاهد على بناء فهم مناسب لمستوى العمل، وبناء علاقة معه بالاعتماد على تجربته البصريّة وحدها. أو بكلمات أخرى، ربما يعني أنّ العمل الفنّي لا يحمل في بنيته لغة تواصل بصريّة تمكّنه من التّفاعل مع المشاهد. إذا افترضنا أنّ باستطاعة النّصّ تفسير العمل الفنّي، فهذا يبيح لنا أن نفكّر في سيناريو نقوم فيه بكتابة نصّ يشرح فكرة العمل الفنّي، ثمّ نتخلّى عن العمل الفنّي بحدّ ذاته، ونضع مكانه هذا النّصّ، فينجح النّصّ في تشكيل 'بديلٍ' عن المرئيّ الّذي يصفه في العمل الفنّيّ، ويكون استعاضةً له.
ولكنّنا في الوقت ذاته الذي نلجأ فيه إلى النصّ لينقذنا من غرابة التّركيب الجديد للمرئيّ والعبث بتواليه المألوف؛ نعرف في قرارة ذاتنا أنّ تجربة 'مشاهدة' العمل الفنّي مختلفة عن تجربة قراءة النصّ التّوضيحيّ له، هذا أمر ندركه بالفطرة، وبذلك تصبح الاستعاضة هنا مستحيلة، إذا كانت الاستعاضة –وهي افتراض تلقائي ضمنيّ– مستحيلة، فهل يكون الدّور الذي أنتج هذا الافتراض –أي اعتماد اللّغة للتّواصل مع المرئيّ– مستحيلًا أيضًا؟ لن نجيب عن هذا السؤال بصيغته الحاليّة، فالحياة بطبيعتها متفلّتة ونسبيّة ولا تحتمل إجابات قاطعة أو حاسمة، ولكن ما زال بإمكاننا أن نقدم صيغة رياضيّة مبسطة تمثّل العلاقة المطروحة، نقول فيها: إذا كانت (أ) تؤدّي إلى (ب) و(ب) تؤدّي إلى (ج)، فإن (أ) تؤدّي إلى (ج)، ثمّ يطرأ لنا مصادفةً أن نذكر أحد ميول العلم الحديثة لاعتبار بنية الكون بنية رياضيّة، ما يعطيني الحق في استدعاء الرّياضيات لتفسير الحياة والممارسات البشريّة.
عند الحديث عن القدرة التّفسيريّة للنّصّ، نواجه مشكلة أخرى يصعب الحديث عنها دون العودة إلى نورمن برايسون وفرديناند دو سوسير. يتعلّق الموضوع ببنية اللّغة مقابل بنية المرئيّ، دعونا نستخدم مصطلحات تبسيطيّة ونقول (الكلمة والصّورة)، وننظر إليها باعتبارها أدوات تعبيريّة، ونضعها الآن في سياق العمل الفنّي، ونحمّلها فكرة. بطبيعة الحال، عندما نتحدث عن الوظيفة التّفسيريّة للكلمة، فإنّ الفكرة تنضج في البدء داخل أحضان الصّورة، ثمّ نلجأ إلى الكلمة لاحقًا ونسقط عليها عبء الفكرة، إذًا ينقصنا هنا عنصرا التّزامن والتّكافؤ، ولكن بعيدًا عن ذلك، تتكوّن الصّورة من بنية تختلف عن بنية الكلمة، وبناء الصّورة/ العمل البصريّ هو عملية مختلفة عن بناء الكلمة/ النّصّ، والدّلالات الّتي تنتجها كلّ منهما تختلف عن الأخرى، فهل تستطيع هذه البُنى المختلفة منذ لحظة تكوينها أن تحمل فكرة موحّدة، وهل تستطيع الفكرة أن تحافظ على ذاتها إذا انتقلت ما بين هذين القالبين إن صحّ التّعبير؟ دعونا مرّة أخرى نتجنّب إجابة هذا السؤال، ونفكّر في مولود جديد، قضى أعوامه الأولى في منزل والديه، ولكنّه في كونٍ موازٍ قضى أعوامه الأولى في منزل جدّته، من حكم خبرتنا الاجتماعية نعرف أنّ الطّفل ذاته سيحمل طبائع وصفات مختلفة في كلّ سيناريو.
مساحة بصرية محرّرة
في فيلمه "استعادة" يضعنا كمال الجعفري في مطاردة محمومة لمجموعة من المشاهد المبهمة، شوارع ومنازل ومياه وحارات ونوافذ وأدراج وأزقّة وجدران وأبواب وساحات وأعمدة وثياب وشجر ومآذن، لا بدّ أنّ هذا التهافت للمشهد العمرانيّ يصرّ على توريطنا مع المكان (خيط أوّل)، ولكن علينا أن نحدّد ملامح هذا المكان لنفكّ غموضه، ونطأ أرض الحلم، هناك ما يشبهنا في ألوان الأسطح وترقيعات الجدران واستدارة الأقواس وصدأ الأعمدة والحوافّ المهشّمة وزخرفات البلاط والمزاريب والأدراج المدفونة بين الحجارة والقباب الطّينيّة، ولكن لا شيء محتّمٌ سوى الألفة (خيط ثانٍ). أشخاص يظهرون ويتلاشون، يبتلعهم المكان كما لو كانوا أشباحًا، وأشخاص تُخرجهم الكاميرا من الهامشّ وتضعهم في عمق المشهد، إذًا، هذا ليس مجرد حديث عن مكان مألوف، هناك طبقةٌ أخرى من الإيماء تخترق المشهد، حياة ما (خيط ثالث). وتوغّلٌ في الحلم، علينا أن نستحثّ ذاكرتنا لنستخرج منها مكامن هذه المشاهد، ونستثير كلّ ما يمكن أن يكون سؤالًا، ثمّ نستدعي التّفاصيل لنشدّ أذهاننا نحو المعنى، ربما نقبض على شيء ما ينقذنا من هذا الغموض.
ولكن بعد مضيّ ساعة، لن يكون هنالك أيُّ داعٍ للقلق، ستظهر لائحة بأسماء الأشخاص والأحداث والأماكن والجمل المفتاحيّة. بإمكانك الآن أن تعيد تأويل عناصر الفيلم وتردم الفجوات المتروكة في المعاني الّتي بنيتها، والمشاعر الّتي كوّنتها على ضوء لائحة الملاحظات المرفقة، وتقول لكمال: شكرًا على المساحة البصريّة المحرّرة الّتي أهديتها لنا ما بين عنوان الفيلم وفقرته الختاميّة. الآن نصحو من الحلم. أفكّر لو سقطت حدود الفيلم اللّغوية كلّها، هل كان سينتهي هذا التّداعي الذّهنيّ، ولكن أليس علينا أن نفهم؟ أعني أن نفهم حقًا.
غزّة-إعادة إعمار
معرض من تقييم يزيد عناني
لا ترددّ في لغة كهذه، بإمكانك أن تتجوّل في المعرض واثقًا ثقةً كافية بقدرة عينيك على 'قراءة' الأعمال الفنّيّة داخل إطار لست بحاجة إلى التفكير فيه كثيرًا، لا بدّ أنّه إطار متّسع ومتشعّب وبإمكانك أن تخوض داخله تحدّيات مرهقة، لاسيّما أنّه معرض كثيف بالأعمال البصريّة.
في نصوص تغطّي مساحات ضخمة من جدران قاعات المعرض، وتكاد تنافس حجم الأعمال المعروضة، نجد فقرات توضّح جزءًا كبيرًا من الفكرة، وتخطفك منذ لحظات ملامستك الأولى للمعرض، وتغريك لقراءتها أولًا، كما لو كانت تقول لك: أرجوك، تزوّد بالأسلحة والعتاد قبل أن تخوض في هذه المساحة المعقّدة والشّائكة، إنّها حرب بصرية صعبة، وأنت غير ممرّن على المناورة، فاحتم جيّدًا بما تعرفه من لغة. ماذا لو تجوّلنا في المعرض واخترنا ألّا نقرأ شيئًا البتّة؟
حمزة عملة يختار مصيرًا مختلفًا للنصّ في زاويته الّتي تحتوي بعض الخضار والسّلع المركّبة بطريقة ذات إيحاءات جنسيّة وطابع فتشي، في عمل بعنوان "الولع بالسّلع". فبدلًا من الوصف المباشر للموادّ المستخدمة وفكرتها، نجد ما يلي: "كنت أفكّر بك منذ وقت طويل. كنت أنتظرك وأتخيّلك في أحلامي، أكاد أموت لأصل إليك. كلّ ما أحتاجه لمسة، لمسةشديدة وموجعة. ربّما أحتاج إلى عضّة. أتوق للتسلّل إليك بعمق بقدر ما أستطيع، لأصطدم بجسدك بقسوة قدر المستطاع. أوفففف! عندما أمسك بك، سأريك كيف من المفترض أن يكون ذلك".
لا أتصوّر جهدًا كبيرًا في تحضير هذا العمل الفنّيّ، المتواضع تركيبيًّا على ما يبدو، ولكنّ هذا النصّ، البسيط لغويًّا أيضًا؛ يقف داعمًا ومساندًا للعمل، كما لو كان جزءاً منه، بل هو حقًا جزء منه، إنّه لا يختصر شيئًا، ولا يزوّدنا بأجوبة، بل يساعد في إيضاح السّؤال الذي يثيره العمل الفنّيّ وصقله.
هل كان حمزة بحاجة إلى لوحة بيضاء صغيرة تشير إلى أنّ ما نراه هو "قنينة زيت نباتيّ وكيس أرز مُخصّر وبعض حبات الباذنجان واليقطين وغيرها من الخضار الّتي تشير إلى الأعضاء الجنسية، في مقاربة مع ساديّة القيم الاستهلاكيّة وإحالة إلى أساليب النّظام الرّأسماليّ في مخاطبة الغرائز الأساسيّة لدى المستهلك، من خلال تمثيل شهوانيّ لمجموعة من المواد الاستهلاكيّة"؟ (سيناريو متخيّل).
لغة هي عمل فنّي
في سياق قريب ومتّصل، يدخل النّص بطريقة أكثر "فنّيّةً" في أعمال شريف واكد، الّذي يطبّق تقنيات المرئيّ على النصّ المكتوب فتكون اللّغة بحد ذاتها عملًا فنّيًا، شاهدنا ذلك في معرضه الأخير "علامات قطع" في غاليري1، نجد هذا الأسلوب أيضًا في أعمال الفنّان الأمريكي لورنس وينر والفنّانة باربارا كروجر. وهذا نقاش آخر يتطلّب أدوات تحليل أخرى، ولن نخوضه في هذا السّياق.
على الهامش
إننّا حقّاً بحاجة إلى خوض تجربة عنيفة وحقيقيّة مع المرئيّ في الأعمال الفنّيّة، وبحاجة، أيضًا، إلى أدوات للتّواصل مع المرئيّ؛ أدوات جديدة تتجاوز مشكلة النّصوص المفسّرة والحدود الّتي تُطبقها على آفاق العمل الفنّيّ، وأعتقد أنّ هذه الأدوات تكمن في المرئيّ ذاته، ويمكننا بصبر وإرادة أن نمرّن أنفسنا على بناء ثقافة بصريّة، وفي هذه المرحلة، نستدعي اللّغة.
عن المؤلفة
ملك عفّونة، كاتبة ومحرّرة ومترجمة، تقيم حاليًّا في رام الله، حصلت على درجة البكالوريوس من جامعة بيرزيت عن تخصّص الصحافة والعلوم السّياسيّة، وتُجري الآن برنامجًا فرعيًّا في دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها. تعمل حاليًّا في المتحف الفلسطيني، وهي أحد مؤسّسي مشروع "مُدام" (محاولات في التّرجمة الجماعيّة لنصوص منتقاة حول الحدث التّصويريّ، الصّورة وعمليّة مشاهدتها أو قراءتها)، ومسؤولة تدريب المترجمين والمحرّرين في مبادرة "أنا أصدّق العلم".