Publications
كتابة هذا البحر
"الأيدي العائدة | حول معرض "يا حوت لا توكل قمرنا
رنا خموس
ما زالت ذاكرتي حية بحكايات جدتي التي تدور حول الغولة التي تسكن عين الماء في قريتها. كنا ننصت لها بعيون شاخصة، نصدق بدايتها أكثر من نهايتها السعيدة، حتى يكاد النعاس يهجر عيوننا في تلك الليلة. أذكر أنني عشت شهوراً كثيرة وأنا أخاف ظلمة الليل، حتى أنني عدلت عن استخدام الماء ليلاً، حتى لا أوقظ الجن النائم داخل الأرض كما كانت تروي جدتي.
***
ذات ليلة، هويت ببئر الماء وأنا أصرخ باسم جدتي حتى تمد يدها لي وتنقذني من هذا العمق المظلم، ناولتني أمي طاسة الرعبة، وحلفتْ يميناً أن لا تسمح لي بالمبيت ببيت جدي لأشهر من شدة الخوف الذي انتابني. أترى، لهذا السبب ما أزال أخاف من فقدان الأشياء من حولي؟ أخاف أن أفقد بيتي وعائلتي ووطني، بعد أن فقدت فرصة المبيت عند جدتي والاستماع إلى حكاياتها.
***
يكتب توفيق كنعان حول النور والظلام وعلاقته بالموروث الشعبي الفلسطيني، كما يكتب عن الماء والآبار المسكونة بالحكايات الشعبية الفلسطينية، وعلاقة هذه جميعاً بالخير والشر. فسبب خروج مياه طبريا ساخنة، أن هناك عدداً كبيراً من الشياطين التي تسخن المياه قبل خروجها إلى السطح. وأنها تحضر الوقود من مسافات كبيرة، وفي حالة ينابيع طبريا، فإنها تجلب من مغارة في وادي الجاي قرب دير دوان. وقد أمر الملك سليمان الجن إنجاز هذا العمل لتوفير الحمام الساخن لسكان فلسطين. ولأن هذه العفاريت عمياء وطرشاء، فإنها لا تعلم أن سيدها الملك سليمان قد مات، وهي لا تزال تعمل خوفاً من عقابه.
كانت حكايات جدتي عن الغولة دائماً تحبس الأنفاس، وتميز بين الغولة الجيدة والسيئة، فهناك غولة جيدة لا تقترب من الأطفال، لكنها تجعل من الأشرار طبقاً لذيذاً لها نهاية كل يوم. رغم قسوة المشهد، فإن كلمة "جيدة" لا أراها مناسبة للغولة! فهي بمخيلتي قبيحة مخيفة بعينيها الغائرتين ذواتي البؤبؤ المستطيل عمودياً، اللتين يتغير لونهما كل لحظة، وهي لا تسكن إلا الظلام. فكيف ستكون جيدة؟! الغولة في النهاية غولة!!.
أما عن الغولة السيئة، فكانت جدتي تردد قصة لغولة قريتها، التي تغوي رجال القرية بجمالها حتى تنال منهم وتأخذ مرادها. إحدى هذه القصص التي أذكر، أنه من شدة تعلق أحد الرجال بالغولة، قدم لها أطفاله في ليلة غاب القمر عنها!
***
"يا حوت، لا توكل قمرنا"، هو معرض للفنانة جمانة إميل عبود، استضافه مركز خليل السكاكيني في رام الله ضمن فعاليات قلنديا الدولي الثالث تحت شعار "هذا البحر لي"، وامتد حتى منتصف تشرين الثاني 2016.
يضم المعرض سلسلة رسومات تطغى عليها ألوان الباستيل والجواش والرصاص، أنتجتها الفنانة بعد أن زارت بعض المواقع التي يذكرها توفيق كنعان ضمن كتاباته الفلكلورية. تنطلق عبود في رحلة فعلية التي يوردها كنعان في بحثه عن المواقع المسكونة في أمكنة مصادر المياه، التي يقطنها العديد من العفاريت، من أجل توثيق هذه المواقع للآبار والينابيع التي اختفت منذ فترة طويلة.
"الغولة ترى كل شيء" هو عنوان إحدى الرسومات التي علقت على جدران المعرض، والتي تجنبت التمعن بعينيها كثيراً حتى لا "يركبني" جن البئر الذي لا يظهر في اللوحة الشاحبة. عندما كانت تصحبنا جدتي معها إلى عين الماء، كانت تحذرنا من الاقتراب من الينبوع قبل غروب الشمس دون ذكر اسم الله، لأن جنية لا ندري بأي شكل تخرج للإنسان قد تكون هناك لحظتها وتخطفنا داخل مسكنها في الينبوع. وفي زاوية أخرى لوحة للفنانة عنونت بـ"لا تلمسني"، وأخرى "بلا عنوان". من خطف العنوان؟
***
تسرد عبود في المعرض قصة معروف الذي ينقذ الماسة من براثن الغولة التي تختطف حبيبته وتضع عينيها وروحها في جرة.
تردد عبود بصوتها:
لا أسمع شيئاً تحت أغصان أشجارك
تبقى الأغاني للجذور فقط
في مكان بلا ظلال
أسكتوا أغنية الماء
بين الزيتونة وبيرزيت
لم تحتملنا الأرض إذ مشينا
تعلقت بنا كالألغام
وسقطنا
سقطت، وسمعت
"لا تخافي يا ابنتي، قريبا ستكونين في بيت أبيك".
تذكر الفنانة أحد المواقع في القدس- عين سلوان التي غيّر الاحتلال الإسرائيلي من معالمها وحفر الأنفاق حتى جف البئر الذي كان يروي آلاف المقدسيين بالحكايات كما الماء. يتحدث سكان المنطقة عن عشرات قصص الشفاء من أمراض بمجرد استحمام أصحابها في مياه العين، كما تروى مئات النسوة ممن عانين من التأخر في الإنجاب توجهن لعين سلوان واستحمامهن بها من أجل تسريع الحمل لديهن.
اليوم أصبحت عين سلوان مسارات للمستوطنين، ومحطات استراحة يوجد بها شاشات عرض لأفلام تلمودية تظهر ادّعاءات الاحتلال بأحقية اليهود بالمنطقة من خلال تهويدها، سالبة المنطقة من حكاياتها الشعبية ومياه آبارها على حد سواء.
يبدو أننا اليوم في فلسطين نحتاج إلى قوى خارقة لاستعادة هذه الحكايات والأرض والماء والهواء، قوى خارقة وطلاسم عرضتها الفنانة عبود في عمل تركيبي قامت بتجميع تفاصيله من مواقع مختلفة لسنوات طويلة، من بين هذه التفاصيل تعويذات وتماثيل من خشب الزيتون ومنحوتات لمخلوقات سحرية.
أسمع مرة أخرى كلماتها، وأنظر إلى العيون من حولي:
هذه الذراع ترقص مع النسيم
خذ الذراع لتمحو الألم
رغم كل لعنة قيدتني بها
أنا باقٍ.
***
"يا بحر لا توكل قمرنا"، أغنية يرددها فتية الساحل الفلسطيني عندما ينخسف القمر راجين حوت البحر ألا يلتهم قمرهم الذي كان ينير دربهم في الليالي المعتمة.
تعيدني الأغنية إلى الساحل، أطالع قمر عكا ذات ليلة. أتنفس عميقاً نسيم البحر، دون أن أشعر بالخوف من موجه العالي، بقدر ما أشعر بالخوف من فقدانه وعدم قدرتي على استنشاق هذا الهواء ثانية. لو كنت أعلم كلمات هذه الأغنية لرددتها طويلاً هناك بالقرب من الموج. "يا حوت، لا توكل قمرنا"، مع أن الحوت لم يكتفِ بالتهام قمر عكا تلك الليلة فحسب.
عن المؤلفة
رنا خموس صحافية فلسطينية، أنهت دراستها في الصحافة والإعلام من جامعة النجاح الوطنية في نابلس. مارست مهنتها في عدة مواقع داخل فلسطين، واهتمت في تغطيتها الصحفية بالمواضيع الثقافية والتاريخية لمجلة الشروق الصادرة عن دار الخليج. شاركت خموس في إعداد مادة بحثية عن تاريخ الصحافة الفلسطينية في فترتي الحكم العثماني والانتداب البريطاني. وتنشط حاليا على إعداد مواد مكتوبة ومصورة على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بها حول فلسطين.