Publications
كتابة هذا البحر
متمردون بالمصادفة، سنوات لا ترحم" عن "العودة" غير المألوفة في المشهد الفلسطيني"
حنين ماخو
في غرفة صغيرة بسقف مقوس في أحد بيوت مدينة رام الله القديمة، وضمن معرض "عودات" الذي قدمته بلدية رام الله في إطار مشاركتها في "قلنديا الدولي"، وقفت لمشاهدة عمل تركيبي فيديو وصوت، سيأخذنا فيه الفنانان باسل عباس وروان أبو رحمة إلى عودة لم نألفها من قبل، يعود خلالها الفلسطينيون سريعاً، مرممين الذاكرة والوقت المسروق.
على مدار ست دقائق وعشرين ثانية، في فيديو يحمل اسم "مُتَمَرّدون بالمُصادفة، سنوات لا ترحم"، نعود برفقة شخصين مجهولين إلى أماكن في جغرافيا تشبه ما نعرف، تبدو من الأماكن ذاتها التي نعيشها ونمر بها، ولكننا في الدقائق الست هذه، نعود لنستكشف الجغرافيا من جديد، وندقق في تفاصيلها برفقة غريبين يديران لنا ظهريهما، وعلى إيقاع موسيقي يتفاوت في حدته وسرعته.
تبدأ الرحلة في الجزء الثاني من العمل من مشهد يقف فيه الرجلان في بقعة منيرة في محيط مظلم، يتخلله أفق ملون وسماء تلتمع فيها نجمتان. إنه منتصف الليل كما يبدو. تستمر رحلتهما مع انقشاع الضوء، ليتغير المشهد ومكونات الطبيعة التي أخفتها العتمة خلف تناسق ما، إلى مكان تسوده الفوضى، فالأفق يغطيه جدار يتصاعد من خلفه الدخان، وعلى الطرف الآخر خربشات عشوائية مضمون بعضها سياسي، ما يجعل المكان أقرب إلى ساحة حرب. ومع وضح النهار، يصل الرجلان إلى مغارة مظلمة في أحد الجبال، فُتحت فيها ثغرة كبيرة تسمح بنفاذ الكثير من الضوء، وبتأمل مشهد الجبال في الأفق. يدخل الرجلان هذه المغارة ويغيبان داخلها، قبل أن تعود الظلمة ليطلا من جديد في ساحة فارغة إلا من بيت مهجور. من هناك يعود تتابع الزمن، مع نهار يوشك على نهايته، ثم يتغير إيقاع الرحلة في الصباح، هذه المرة لينطلق الرجلان مسرعين بالسيارة وليس مشياً على الأقدام، فيعبران بحواجز عسكرية وبمستوطنات، إلى أن يعودا عند الغروب إلى مشهد طبيعي يكاد يخلو من أي مبانٍ، أمامهما الغروب ونار مشتعلة، لتتابع المشاهد وتتشابه: غروب، بيت مهجور، إطلالة من الجبال إلى البعيد، وعودة إلى المكان الأول، يليه تداخل سريع بين المشاهد والنصوص والموسيقى حتى النهاية.
العمل يدمج بين مشاهد متخيلة من بدايات حياة الكاتب والثوري الاشتراكي فيكتور سيرج في باريس في بداية القرن العشرين؛ والفلسطينيين أبو جلدة والعرميط وعصابتهم التي شاركت في الثورة ضد البريطانيين في فلسطين؛ والفنان الصعلوك في جوهره في رواية روبرتو بولانيو "المحققون الوحشيون" التي تجري أحداثها في المكسيك في سنوات السبعينيات. وعبر هذا الدمج يروي العمل رحلة ثوار في الثلاثينيات يعودان من جديد، فنعود معهم لنستكشف مسارهم الثوري، حيث من هنا والآن، في المشهد الفلسطيني، يبدو هذا المسار كما لو أنه لم يتغير، الرحلة خفية والوجوه مجهولة، والفعل الثوري هو الحركة التي تبدو حرة وسريعة. في جميع هذه المشاهد، بعناصرها المختلفة، الليل والنهار، الطبيعة ودمار الحرب لها، الصخب والهدوء، المشي والسرعة، نعود في رحلة ثائرين، معايشين مسارها الذي بدا واضحاً، يسوده الهدوء والتخطيط، والانكشاف على الواقع، الاختفاء والتأمل، والتنفيذ، الهروب والاختفاء مرة أخرى. إنها الرحلة المألوفة في عمر الثورات، التي أعادنا هذا العمل لنعيشها ولو وقتاً قصيراً، وعبر شكل غير مألوف من العودة أيضاً.
استطاع العمل أن يفتح أمامنا أسئلة جديدة عن "العودة" الواحدة في ذهن الفلسطيني، وغياب شكل العودات الأخرى المتخلية، وأن يعيد للثورة وحياة الثائر دوراً حيوياً في حياتنا اليوم كفلسطينيين، في الوقت الذي لا نسمع غالباً عن الثوار في الثورات الحقيقة إلا من أثر عملهم أو بعد موتهم. تغيب تفاصيل حياتهم التي يقضونها
في المجهول بالنسبة لنا، ولكن ها هو هذا العمل يعيدنا إليها، ولتأملها طويلاً.