Publications
كتابة هذا البحر
لما شتَّت الدنيا سمك
آلاء قرمان
المشهد الأول: في الخامسة من العمر
تقف أمام البحر. في الخامسة من العمر. على الشاطئ سمكة. السمكة حمراء اللون أو برتقالية. الرمل دافئ والموجة تركض هاربة من البحر إليك. تستقبلها بأيدٍ مفتوحة، لكنها تفر عائدة إلى البحر. كنت تقف هناك تراقب البحر يطرح سمكة، وفي الخامسة تحمل السمكة، ولا تفهم لم لا تقفز عائدة إلى البحر. سمكة على شاطئ البحر. وأنت الصغير ظننتها تتنفس فأعدتها إلى البحر، وفي الخامسة أيضاً تمشي إلى البحر كأنك سمكته المفقودة، حتى يحتويك. ليس ثمة ألم، وليس ثمة صوت تحت الماء، هناك الزرقة الصافية، والسمكة تخبرك أنِ اتبعني. تبتسم وتغمض عينيك وتستسلم إلى السكون وتتبع السمكة قبل أن تنتشلك يدٌ ما.
في اللحظة التي كدت تمسك فيها الهواء، تتسلل السمكة إلى قلبك. تشهق فينزلق الكائن إلى معدتك. لكنها خدعة. تدري أنها خدعة أنت ضحيتها، ككل الأطفال. الأكياس المملوءة بالسمكات الصغيرات الملونات، والأمنيات بأن تكبر، والانتظار الذي يتحول أخيراً إلى خيبة. فكل السمكات تموت قبل أن تستقر على شرفة الصغار، يتسرب الماء من الكيس أو يختطفها القط الجائع في لحظة فرح أو سهو.
تجلس مبتل الشعر، تحاول أن تخفي مشاعرك وأن تسأل أمك بعدها بسنوات هل حدث أيٌّ من هذا؟ ولكنها تنفيه. لكنك أنت تحمل السمكة في بطنك، وفي الليل أحياناً، يرف ضلعك الأخير وتكاد تقسم أنها تتحرك لتقفز، وتغادرك إلى البحر ثانية.
أنت السمكة التي لم تنتمِ يوماً إلى هنا، تحمل مروياتك عن المكان الآخر، الذي لم تزره أبداً! ولم تعش هذه الحياة حقاً، مع أنه هنا الآن، حين تمحل الدنيا لسبع ليالٍ ينزل الناس فيصلون لله، ليسقيهم المطر حتى تفيض الأرض ويجوع الناس، فيخرجون لله سائلينه الطعام: أنت تجوعنا أو تغرقنا يا الله؟ وهنا في هذا المكان يرسل الله "من كتر الشتا سمك!"، حيث يمد الناس أيديهم ورؤوسهم وطناجرهم وكل ما يملكون، ثم يأكلون ويرقصون ويشبعون! أنت ابن هذا المكان، تعرف شوارعه، لكنك تجهل الحكايات، فأنت غريب عنه، بطريقتك الغريبة في نطق حرفي الجيم والقاف، بلا انتمائك العميق لأي قاعدة اجتماعية.
المشهد الثاني: في الثامنة والعشرين من العمر
في الثامنة والعشرين، مسكوناً بكل الأفكار الراديكالية والرفض، تقف في معرض "يا حوت لا توكل قمرنا" للفنانة جمانة إميل عبود ضمن فعاليات قلنديا الدولي الثالث (5/10–15/11/2016)، وتقرر فجأة أن عليك أن تفعل أمراً ما. هذه هي سمة جيلك، محاولة عمل "أمرٍ" ما، ودون أن تحتسب العواقب. تحمل سمكة من على لوحة وتخفيها. لكنك تعترف للآخرين، لست بطلاً، أنت تدرك هذا، بحرفية شديدة ربما، أنت تحاول أن تثير إعجاب أحدهم فحسب، لكنك تحتاج إلى تبرير منطقي، واضح، وقوي. تحتاج إلى الأكاديمية لتخفي جرائم الحب، وإلى الرفض لتتنكر لنزعاتك التخريبية.
في الليلة الأولى، ترسل صورة إلى كل أصدقائك محتفلاً ومنتشياً والسمكة لا تشكو كثيراً، بل تبتسم لك. وأنت تنام دون قلق. تقول: ما هو العمل الفني إن لم يره أحد؟ إن لم يتعرض للآخرين؟ إن لم يره أصدقائي؟
في الليلة الثانية، تكتشف أنك كنت أنانياً، إلا أنك لا تبالي، الحب الأحمق الذي لا تريد الاعتراف به، ضحك كثيراً. فليكن!
في الليلة الثالثة، تجتاحك السمكة وتطالبك بتفسير! إنها لا تقتنع بأنك لا تبالي بإدراكك بأنك غيرت معنى اللوحة.
في الليلة الرابعة، تقول لها: سنغير طبيعتك قليلاً. وتصير السمكة حلقاً!
في الليلة الخامسة: تتلقى التهاني على أفكارك العبقرية الفذة، وتضحك في سرك: لم يكتشفك أحد. ليس بعد!
في فقه السرقة:
الفصل الأول: يوريكا يوريكا
لماذا عليك أن تسرق عملاً فنياً؟ هنالك أسباب عدة:
-
أزمة العمر. كما تعرف ونعرف جميعاً أن الثامنة والعشرين رقم ضخم جداً. إنني أقترب بسرعة مرعبة من الثلاثين كجزء من جيل بأكمله، يبدو أنه بأكمله يريد أن يفعل أمراً ما، ولكنه لا يفقه كيف يفعله. فها أنا في الثامنة والعشرين، عزباء، ودون مستقبل أكاديمي واضح، وأعيش في منزل والدي، وأقضي وقت الفراغ في التسكع وتعلم كل ما يمكنني أن أتعلمه.
-
لأنه لم لا؟ ما المانع حقاً؟ ما الذي يمنعنا من امتلاك أي عمل فني أصيل؟ ثمنه المرعب؟ تقديسه؟ كونه معروضاً؟ الخوف من وصمنا بكلمة سارق؟
-
الملل. في الآونة الأخيرة، صار الملل سمة الكثير من الأشياء. كل شيء يبدو خالياً من الدهشة؟
-
متلازمة "المثقف"، وهي واحدة من ألطف المتلازمات في عالمنا الحالي. لكي تصبح مثقفاً، فإن عليك أن تقرأ كتباً من نوع ما، ليس مهماً كم تبدو هذه الكتب مملة، لكنها مهمة. إنها ما يجب أن تفعله لتحقق الانتماء لطبقة المثقفين، والأمر ذلك ينطبق على الفن. عليك أن تدخل صالة العرض، تكاد تهز رأسك بأناة وصبر، ثم تقترب من العمل الفني وتتأمله وتشمه، وحتى إن أمكنك، أن تلمسه. يجب أن تنخرط في العمل الفني، حتى لو كان العمل معقداً، أو بسيطاً، أو سخيفاً، أو مملاً، أو عادياً. المهم أن تفعل ما يجعلك أعظم وأعمق وأجمل وأرق وأحن من العمل نفسه.
لكن، ما هي الحجة التي استعملتها أنا؟
الحب طبعاً! حملت السمكة من لوحة في معرض "يا حوت لا توكل قمرنا" وقررت أن أخرج بها. الآخرون وقفوا يضحكون، وأنا بجديتي البالغة قلت: أنا واقعة في الحب، من أحبه يحب السمك. اتكأت على الحجر البارد لمركز خليل السكاكيني الثقافي وأكملت: إنني أريد هذه السمكة! قضي الأمر، أود أن أهديه إياها. سيفهم أنني مستعدة الآن لعلاقة أكثر جدية، لأنني أهديه سمكة مسروقة!
كما أن الأمر ليس مهماً. يعني: ما الذي يشكله هذا التفصيل الصغير جداً في عمل مركب جداً كهذا الذي قدمته عبود؟ ستلعب السمكة دوراً مهماً في إنقاذ علاقتي العاطفية المتعثرة وإنعاشها! أليس هذا أفضل من بقائها هنا، حيث لن يراها أحد؟ دعوها تتنفس. وأخرج أنا، بسمكة، لحبيبي الوهمي!
الفصل الثاني: أغنية للحبيب الوهمي
في الليلة الأولى، أخذت صورة للسمكة، وأخبرت الأصدقاء جميعهم أنني سرقت عملاً فنياً ما. أصدقائي صدموا حين علموا بما حدث: كان عليَّ أن أسرق لوحة! أو شيئاً أكبر؛ كانوا سيكونون أكثر تقديراً للفعل. تركت السمكة نائمة كما هي على الرف. كل يوم كنت أنظر إليها، وأضحك. أفكر باللوحة التي أخذت منها السمكة، أتخيلها الآن، دون سمك، بخلفيتها الحمراء، وعليها ما بدا أنه وادٍ ما. لم تكن اللوحة تحمل ما يمكن أن أتواصل معه، والسمكة كانت مكسورة الذيل من أصله.
بل كنت مقتنعة تماماً، بأن بإمكاني أن أخلق لهذا العمل معنى جديداً، عدا أن تجلس السمكة في البرد في صالة عرض السكاكيني، دون أن يراها أحد: هل يمكن لهذه السمكة التي تعيش على لوحة في معرض في رام الله أن تكون فناً لمن يسكنون في نابلس؟ أو الخليل؟ أو غزة؟ كل ما عليَّ أن أفعله الآن أن أختبر الادعاء.
وهكذا، أقمت أسس نظريتي الجديدة: تقول النظرية إذا فحصنا معنى الزمن في معرض "يا حوت لا توكل قمرنا"، نجد أن الزمن يتحرك من الآن نحو الماضي. وبما أنني أمتلك سمكة من هذا المعرض، فعليَّ أن أجد إطارها الزمني الخاص بها، فالافتراض الأولي أنها هي، أيضاً، تتحرك نحو الماضي، ولكن المعرض نفسه هو جزء من حراك فني فلسطيني حالي، والسمكة هي جزء من كل السمكات اللاتي عشن في الفضاء الفني الفلسطيني، كسمكات مشروع "مسار السمك" للفنان علاء البابا. يفحص البابا في هذا المسار الذي يتحرك نحو المستقبل، العلاقة بين المخيم والسمك. والسؤال: إلى أي زمن تنتمي هذه السمكة المسروقة؟
الفصل الثالث: تحول ما
استيقظت صباحاً، حملت السمكة، وقلت لها: علينا أن نتغير الآن، أنا وأنتِ.
فهي قد فقدت، بداية، ما كانت معلقة به، وصارت حلقاً. حملت اللوحة التي أمتلكها من "مسار السمك"، والسمكة من معرض "يا حوت لا توكل قمرنا"، وبدأت رحلة البحث عن معنى مشترك لهما.
يختلط الأمر كثيراً، حين أخبر الآخرين القصة. تكون ردة الفعل الأولى السؤال عن حبيبي السري، الذي يستحق أو لا يستحق أن أسرق لأجله سمكة، وأهديه هذا العمل، ثم ينظر الجميع إلى السمكة، ويطالبني بتفسير لهذه المزحة: لماذا صارت هذه السمكة عملاً فنياً؟ يتساءلون. وهل أنت من قطع ذيلها؟ ما هو هذا العمل الفني الذي سيفقد معناه إن تركته السمكة؟
ثم تأتي اللحظة السحرية التي يحمل فيها كل شخص، بثقة، أو بحذر وفضول، السمكة، يفحصها، يشتم رائحتها، ثم يتخذ موقفاً ما منها، إما أن يستمر في حملها، وإما أن يتركها. وهناك من رفض حملها.
رسالة مهمة في طريق التحول:
شكراً جداً للقائك معي وتبادل الأفكار. الحقيقة أنني أفكر منذ يوم الأربعاء بشكل مستمر بالكثير من الأشياء التي تحدثنا حولها. ومع أنه لم يُتَحْ لي لقاء جمانة عبود للأسف، وجدت نوعاً من الإجابة للسؤال الأبرز: لماذا أثارني المعرض إلى هذا الحد، إلى درجة السرقة منه؟
كنت أفكر أنني أحمل منذ بداية المساق وحتى لحظة كتابة هذه السطور، سؤالي الشخصي حول مفهوم الفن. لارا، كنت تتحدثين عن اللوحات، وكنت أخبرك أنني أقف أمام اللوحة وأنظر إليها وأسأل بوضوح وبشكل جاد جداً: ما الذي يجعل هذه اللوحة فناً؟
في محاولة التواصل مع الفن البصري وعلاقته باللغة، أفكر بالسيولة الكبيرة التي تحكم تعريف هذه الفنون، التي أحاول الفرار منها. أدرك تماماً أن البحث عن معنى ليس هدفاً، لكن غياب المعنى يصبح جحيماً أحياناً. هناك الكثير من التعريفات والتصنيفات الفنية التي تستند إلى سردية نظرية ضخمة تصاحبها، ثم نصطدم بفكرة بالمعارض الفارغة، لارا أنت تملكين بالاستديو الخاص بك ورقة كاملة معلقة أمام المطبخ عن المعارض الفارغة وأسبابها ومبرراتها، لكن لو كنا في عالم – ودعيني أستعير هنا توم ميتشيل في مقاربته وأعكسها – لا نصوص فيه، عالم بصري يعتمد على الصورة فحسب، متجاهلين في هذا السياق كون اللغة المكتوبة رموزاً بصرية بالنهاية، لو كنا نعيش في مثل هذا العالم، ماذا سيكون معنى هذا المعرض الفارغ، دون سياق لغوي لتبريره؟
حين نتحدث عن الفن، أفكر كثيراً بالتعريف الخاص به، هل أنا مخطئة لأن لدي هذا الإحساس العميق مثلاً تجاه معارض قلنديا عامة، بأنها كانت فناً من وجهة نظر الفن الذي يتم تعريفه وفق سياقات نيوليبرالية غربية وقدرتها على تعريف الفن وتحديد توجهاته؟ هل يمكن أن ننفي خلاص الفن من سيطرة الغرب وماله في تعريفه، وحتى قبول الفن من عدمه؟ ونعم يمكن لنا كفلسطينيين أن نستند إلى تنظيرات جاياتري سبيفاك، حول دراسة التابع في قراءة المشهد الفني الفلسطيني، وإنتاجه. لكن أوليس السياق الفكري النيوليبرالي الغربي، وسياق دراسات التابع ما بعد الاستعمارية، يفرضان سردية ما بعينها؟ لماذا لا يمكن لأحدهم أن يعلن قائلاً: سأترك هذه السرديات لنفسها، وأنتج ما هو شخصي وحميمي وفني خارج هذا كله. ربما سيكون هذا تصوراً رومانسياً بائساً للحياة، السياق الخارج من رحم الحياة هنا، متجاهلاً ما تم إنتاجه وتقديمه عبر عقود عالمياً، على أنه فن.
حين أفكر أكثر بمعرض جمانة عبود، أدرك أنه الوحيد الذي حاول الخروج من هذه السردية إلى حد ما، فهل يمكن لشخص من خارج عالمنا الفلسطيني أن يدخل هذا المعرض ويشعر بالراحة معه؟ هل يمكن أن يفهم أحد ما خارجنا نحن هذا العالم الخرافي السحري من الحكايات والأساطير كما نفهمه ونعيشه نحن؟ بالطبع من الممكن لأحدهم التماهي معه لأن الأساطير والحكايات وموادها الأولية في النهاية متشابهة جداً، إلا إنني أشك في أنه لن يمكنه التماهي داخل المكان تماماً كما يمكن لمشاهد فلسطيني.
كنت أخبرك لارا، أنني فكرت بلحظة ما وأنا آتية إلى رام الله، أن حركة العالم داخل معرض جمانة عبود قد تبدو نحو الماضي، ثم استطردت بأنها ليست كذلك. تلك الليلة كتبت لعدنية شبلي أقول لها: كل شيء حي، كل شيء موجود، أنا البنت أيضاً أؤمن بخرافاتي الشخصية، ولأن ما داخل المعرض ما زال حياً بطريقته الخاصة، ربما يكون هذا ما أثارني أو حتى استفزني وأغضبني عقب مشاهدة المعرض، إذ لم أرغب، ولم أرد، ولم أوافق على أن يدخل هذا السحر، وهذه الأدوات السحرية، إلى عوالم الفن، وتتم معاملتها ضمن الأسئلة وضمن المعايير الفنية العالمية. إنها سرقة لا أريد أن تحدث. لا أريد أن أتعامل مع الحياة السحرية الشخصية ضمن قواعد قادمة وضمن تصنيفات قوى نيوليبرالية خارجية. وربما لهذا ارتكبت فعلاً كالسرقة: إنني أحتج، وبعمق، على ما يحصل هنا، فأنا لا أريد لهذه المعادلة غير المنصفة أن تلحق بالسحر، فأخشى أن يتسرب ما هو باقٍ من سحر في الأشياء.
هل يبدو هذا مبرراً ومقبولاً ومنطقياً؟ هل يبدو مفهوماً أصلاً؟
***
في موت المؤلف، يتساءل رولان بارت عن الصوت الذي يكتب، وقول أنه لا يمكن معرفة هذا الصوت بشكل يقيني فـ"الكتابة هدم لكل صوت، ولكل أصل. الكتابة هي هذا الحياد، وهذا المركب، وهذا الانحراف الذي تهرب فيه ذواتنا. الكتابة هي السواد والبياض، الذي تتيه فيه كل هوية، بدءاً بهوية الجسد الذي يكتب". أزعم أن هذا، أيضاً، ينطبق على عمل فني بصري مثل "يا حوت لا توكل قمرنا"، فبدرجة من الدرجات، تشكل الكتابة عملاً بصرياً. هل يوجد تفسير آخر، إذن، للوحات الخط في هذا العمل سوى كون الكتابة فعلاً بصرياً بامتياز؟
يفترض بارت في مقالته أنه "ما أن يروى حدث ما، خارج أي وظيفة ما عدا الممارسة الرمزية نفسها في النهاية، حتى يظهر هذا الانفكاك، وحتى يفقد الصوت أصله، ويدخل في موته الخاص، وتبدأ الكتابة"، يمكننا أن نفكك العمل الفني البصري، وهذه مجرد محاولة للفهم وليست ادعاءً بصواب الفكرة، إلى مكونات أولية يكون فيها الحدث هو العمل الفني، ويكون الصوت هو للفنان، الذي يعرض في هذه الحالة سردية ما ترافق عادة العمل الفني.
لكن، كل قراءة برفقة البصري هي قراءة جديدة، فما هي فائدة السردية لشخص لا يمكن له أن يفهمها، ولا يمكنه فك عناصرها متعاملاً مع العمل الفني على اعتبار أنه عمل بصري مسطح؟
بطبيعة الحال، لا يمكن إغفال دور الفنان/الراوي، أو افتراض عدميته، فهو بحسب تعبير بارت "شامان" العمل وناقله، ما يستدعي هنا دور المتلقي كالفنان/الراوي أو الرائي الجديد للعمل الفني، ولكن، متى يمكن أن نزعم أن المتلقي صار فناناً؟ كل عمل فني، ما أن ينتهي حتى يصبح ملكاً للمتلقي، الذي يعيد تكوينه في ذهنه من جديد، ويكسبه معانيَ جديدةً ومبتكرة، بناء على تجربته، أو على ما مرّ به أو سيمرّ عليه.
يمكن أن نفكر بالمعارض على أنها مساحات لعرض روائح لا نهائية، لكن واحدة فقط (وربما أكثر)، هي التي سيحملها معه المتلقي، وستظل حاضرة في ذاكرته بعد مرور السنين، مشركاً بها الآخرين أيضاً.
بذلك يضيف المتلقي معنى آخر جديد على العمل الفني، أو حتى يعيد إنتاج العمل الفني ضمن سياقاته. بالتالي يمكن لنا أن نفكر أنه لا وجود لفنان واحد، بل هناك عمل فني يجري إنتاجه مع كل عملية تلقٍ له.
وما دام كل شيء قابل للتحول، فإلى ماذا يمكن أن تتحول السمكة؟ وماذا يمكن أن يفهم منه أو ينظر إلى غيابها؟
الفصل الأخير: وداعاً يا عزيزتي
اللوحة استمرت بالحياة دون السمكة. مع ذلك، تبدو لي الآن باردة وغير مكتملة لكنها موجودة هنا. كيف كان الناس ينظرون إلى عمل ناقص؟ هل فكروا بالنقص الحاصل، وبما يمكن أن يحل مكانه؟ هل حاول أحدهم التخمين؟ في خيالي تبدو اللوحة أكثر وضوحاً، الألوان أكثر حدة، أراها بوضوح شديد وأفكر في اللعنة التي حلت علي بعد أن هربت بالسمكة، والخطى المباركة لأنني فعلت، لأنها أتت، وفتحت قنوات جديدة، لمجرى زمني آخر جديد. وحين كانت السمكة هناك أمامي، بدت هي، أيضاً، تحتال لتهرب، تنفست السمكة فيّ.
أعيدها الآن إلى موضعها في اللوحة، إلا أنها لم تعد هي هي، لم تعد السمكة الأولى التي هربت معي، بعد أن تغيرت طبيعتها، فمنذ الليلة الأولى لم تعد هي ذاتها، كل شيء تغير، بعد أن بدأت بتنفس هواء آخر غير هذا الهواء في قاعة العرض، فكم مرة حملتها الأيادي ووشتها أسرارها، وكم مرة قلت: تصبحين على خير، وكيف كان يومك؟ وهل كانت الرحلة في الشنطة وعرة عليك؟ هل تشتاقين إلى موضعك في اللوحة؟ سنغسلك الليلة، تعالي أحدثك قليلاً، هل في قلبك مكان لسر آخر؟ سأوشوشك الليلة عنه، وعني. هل نتوقف الآن؟
فصل لاحق: هذا ما جنته يداي
لم يبدُ عادلاً أن أعيد السمكة التي كنت مدينة لها بكثير من الأفكار، دون أن يحدث شيء ما.
كنت أعدتها بعد أن غيرتني، فكان لا بد، أيضاً، من أن أنقل هذا السحر إلى المعرض. لذا بحثت طويلاً عن تميمتي السحرية. كانت تميمة عمرها ثلاث سنوات، أهداني إياها حبيب سابق وأخبرني بأنها مسحورة لتساعدني حتى أجد الطريق إليه، ولسنوات ثلاث، لم تغادر هذه التميمة حقيبتي، كما فعلت فعلها، حيث وجدت طريقي الشخصية بعيداً عن هذا الحب في النهاية. ولعام تقريباً، ظلت مختبئة في غرفتي، أخاف أن ألمسها، أو أن أحمل ثقلها، لكنها كانت أكثر الأغراض التي شهدت على ولادتي كفرد جديد في الحياة، وأثق أنها ساعدتني لأجد هذا الطريق. الآن يمكنني تركها فعلاً. أتجه في زيارة أخيرة إلى مركز السكاكيني، اختار لوحة من لوحات معرض عبود، تظهر فيها امرأة تولد من سمكة، وأترك تميمتي هناك.
عن المؤلفة
حصلت آلاء قرمان على درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها، وتعمل في مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي. تهتم وتكتب عن أدب الأطفال، وفي أوقات فراغها ترسم وتعتني بالقطط.