Publications
كتابة هذا البحر
آثار حيَّة | على الطريق من النقب إلى كانبيرا
رام الله - قلنديا - القدس
لأتمكن من دخول القدس عبر المعبر المخصص للإسرائيليين والأجانب، كان عليّ كفلسطينية انتحال شخصية غير فلسطينية قدر المستطاع، رغم حيازتي تصريحاً رسمياً لدخول المدينة. الخطوة الأولى كانت إعادة ترتيب الجالسين في الباص، بحيث يجلس في الصفوف الأمامية أولئك من ذوي البشرة البيضاء والشعر الأشقر. أما الخطوات التالية، فكانت ارتداء نظارات شمسية، والجلوس إلى جانب صحافي إيطالي، والاستغراق في الحديث معه عند الوصول إلى الحاجز، وتجنب النظر إلى عيون الجنود عبر النافذة تحت أي ظرف. اكتشاف وجودي كفلسطينية على متن الباص كان من الممكن أن يتسبب في إعادته على أعقابه.
اللقاء الأول: مطعم في باب الخليل
أجد نفسي أجلس في المطعم بالقرب من نوري العقبي المولود في بئر السبع، الذي يبلغ من العمر 75 عاماً. وعلى رائحة المقلوبة بالدجاج المنبعثة من المطبخ، وأصوات عملية تجهيزها، أخذ نوري رئيس جمعية مؤازرة وحماية حقوق البدو في إسرائيل، الذي تهجَّر من منطقة العراقيب في بئر السبع ويقطن مدينة اللد حاليا، يحدثني عن تجربته كبدوي من النقب. الحركة متواصلة في المطبخ.
العراقيب هي جمع عرقوب، ويعني التل الممتد بين الأودية، وقد تم ترحيل نوري وعائلته قسراً من العراقيب في العام 1951 ضمن 11 ألف بدوي إلى منطقة قاحلة تسمى "السياج"، تقع إلى شرقي طريق الخليل - بئر السبع، بحجة إخلاء الأرض بشكل مؤقت لصالح تدريبات عسكرية لمدة ستة شهور.
لم يسمح لهم بمغادرة منطقة السياج لمدة 16 عاماً لأسباب "أمنية"، قامت خلالها إسرائيل تحت قوانين "أملاك الغائبين" بمصادرة أراضيهم في العراقيب التي رُحِّلوا عنها لبناء المستعمرات. وفي العام 1968، وضعت إسرائيل يدها على أراضي "السياج" كاملة، وانتهجت سياسة تأجيرها للبدو المقيمين عليها منذ 16 عاماً إذا تعاونوا معها، أو تطردهم منها إن رفضوا.
في العام 2006، عاد نوري إلى مسقط رأسه في العراقيب ونصب خيمته فيها، فبدأت السلطات الإسرائيلية ملاحقته، وهدمت خيمته وصادرتها أكثر من 50 مرة، كما تم إبعاده عن المكان وتوجيه لائحة طويلة من التهم ضده ومنعه من دخول العراقيب.
في العام الماضي، حكمت محكمة إسرائيلية على نوري بالسجن لمدة ثلاثة أسابيع لتهمتين؛ الأولى لكتابته عبارة "مسجد بئر السبع" على مدخل الجامع في العام 2000، والتهمة الثانية لاعتراضه جرافة تابعة لصندوق إسرائيل الدائم "ككال"، التي كانت تسوي أراضي عائلته المصادرة في منطقة العراقيب لزراعة أشجار حرجية.
وصلت أطباق المقلوبة أخيراً وفيها الأرز كتلال صفراء. وما هي إلا دقائق قليلة بعد أن استهل الجالسون الطعام، حتى أصبحت الطاولة مغطاة بالأرز المتناثر من الصحون المُتللة. أخذ بعض الجالسين على الطاولة من الفنانين من السكان الأصليين في أستراليا، بجمع الأرز المتناثر في أكوام صغيرة فوق بعضها البعض بشكل عفوي، بينما الفلسطينيون من الجالسين أعادوه إلى الصحن ثانية. الضيوف الأوروبيون لم يكترثوا بأمر حبيبات الأرز المندلقة من صحونهم.
اللقاء الثاني: سطح مؤسسة المعمل، الباب الجديد
على سطح مؤسسة المعمل للفن المعاصر في بلدة القدس القديمة، تحدث نوري عن نهج الحكومة الإسرائيلية بعد احتلالها في العام 1948 للنقب، ومحاولاتها تهجير سكانه البدو باستخدام أساليب القصف والترهيب، وكذلك الزراعة. تحدث عن قيام السلطات الإسرائيلية بزراعة نبات صبار مستورد من أستراليا لحصر مناطق الرعي التي تتجول فيها الماشية، ويبلغ طول أشواك هذا الصبار عشرة سنتيمترات، وقاعدتها سنتيمتر واحد، أشبه بالسكاكين الحادة التي تشق صدور الماعز حال قام بتسلقها كعادته.
زراعة الأشجار عامة للاستيلاء على الأراضي أمر راح ينتهجه الصندوق القومي اليهودي قبل بدايات القرن العشرين، حين تم إحضار البذور الأولى لأشجار الأوكالبتوس من أستراليا إلى فلسطين أيضاً، خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، كما يفصح الفنان توم نيكلسون في كتاب صدر بالتزامن مع عمله "نصب مقارن: ماميلا" وهو: دليل لمجموعة 69 بذرة لشجرة الأوكالبتوس كمالدونيسيس في المكتبة الخالدية في القدس (2012–2014). وفي توثيق (بذرة 24) في الكتاب، يأتي اقتباس على لسان أحد المسؤولين عن زراعة أشجار الأوكالبتوس من الصندوق القومي اليهودي في تلك الفترة: "الهدف الأول كان مساعدة الكيبوتسات اقتصادياً، إلا أن هناك عنصراً عملياً آخر يتمثل في عملية الاستيلاء على الأرض، بحيث لا تعود إلى أيدي العرب مرة أخرى ... بداية، فإن هناك قانوناً بريطانياً لحماية الأشجار، وفر لنا بعض الشرعية، كما أنه لا توجد طريقة أرخص للاستيلاء على الأرض من عملية التشجير والتحريج، فالأمر لا يتعدى عاماً أو اثنين من العمل، وبعدها لا يحتاج هذا النوع من الأشجار مزيداً من العناية والمساعدة الحقيقية".
اللقاء الثالث: تل "شلالة" في منطقة النقب
ويسمى كذلك بتل الشريعة، ويبعد 25 كم عن غزة، وهو الموقع الوحيد في النقب الذي من الممكن منه رؤية غزة وبئر السبع في آن واحد بالعين المجردة، وبالتالي كان معروفاً للبدو الذين سكنوا المنطقة. هناك أيضاً عيون ماء، استخدمها البدو لمواشيهم، تنتشر حول التل. وفي الشتاء، تجري في واد شلالة مياه من جبال الخليل عبر النقب لتصب في بحر غزة. بالقرب من هذا التل تقع بقايا كنيسة بيزنطية أيضاً تعود للقرن السادس عشر. في بداية القرن كان جزء من أرضية الكنيسة التي رُصفت بقطعة جميلة من الفسيفساء مكشوفاً. وتتميّز قطعة الفسيفساء هذه أنها تعود إلى فترة تحول الديانة في المنطقة من المعتقدات الهيلينية الوثنية إلى المعتقدات المسيحية، وهو ما تعكسه الرسومات فيها التي تظهر مجموعة من الرموز والحيوانات المألوفة من المنطقة مثل الماعز.
يرد التل كذلك في مذكرات الجنرال الإنجليزي اللنبي، كأحد المناطق الاستراتيجية لاحتلال غزة، وقد تمركزت فيه القوات العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى قبل أن تسيطر عليه وحدة من الجيش الأسترالي في العام 1917. كانت هذه الوحدة تحارب جنباً إلى جنب مع البريطانيين ضد الألمان والإمبراطورية العثمانية في فلسطين.
وأثناء تواجدهم على هذا التل، وضع الجيش الأسترالي يديه على قطعة الفسيفساء هذه التي أعجبوا بها، وقاموا باستخراجها سراً تحت هدير الطائرات الحربية، ومن ثم تغليفها ونقلها إلى أستراليا لتستقر في نهاية المطاف في نصب تذكاري في متحف للحرب في العاصمة الأسترالية كانبيرا.
وقد اعتبر الجيش الأسترالي حينها أن الفسيفساء من حقه كجائزة على ما بذله من تضحيات في الحرب. "اكتشاف" هذه "الجائزة" في فلسطين تحديداً، باعتبارها أراضي مقدسة، أضفى عليها قيمة أكبر بالنسبة لأستراليا. ويقال إن خبير آثار بريطانياً ساعد وحدة الجيش الأسترالي تلك في توثيق لوحة الفسيفساء، ما دعا المسؤولين الأستراليين إلى القلق، خوفاً من وضع البريطانيين يدهم عليها وشحنها إلى المتحف البريطاني في لندن. لذلك، تم نقل القطعة على عجالة إلى مصر، ومن ثم إلى أستراليا في العام التالي باذلين أقصى ما في وسعهم لشحنها وبأي تكلفة كانت.
اللقاء الرابع: كانبيرا، 1972
في أحد الأيام من العام 1972، قام أربعة ناشطين أستراليين بنصب مظلة شاطئ أمام البرلمان الأسترالي في كانبيرا، ووضعوا عليها يافطة كتب عليها "سفارة سكان أستراليا الأصليين" احتجاجاً على إعلان الحكومة في ذلك اليوم عدم أحقية شعب أستراليا في أراضيه التي تم احتلالها في العام 1788. عدد المحتجين تضاعف في الأشهر القليلة اللاحقة ليصل إلى 2000 شخص كان من بينهم الفنان والناشط ريتشارد بيل. وعندما حاولت الشرطة تفريق المحتجين، اندلعت مواجهات أثارت تعاطف الرأي العام. فقد كانت رسالة المحتجين قوية: مالكو الأرض، أباً عن جد، يعيشون غرباء عليها، لا أحقية لهم في أي شبر منها. وسفارة سكان أستراليا الأصليين تحولت من مظلة إلى خيمة دائمة استضافت منذ ذلك الحين الكثير من الناشطين والمتحدثين والسياسيين والمفكرين من أستراليا والعالم، وكان لها أثر في إثارة الرأي العام حول حقوق شعب أستراليا في استعادة أرضه.
على سطح مؤسسة المعمل، كانت هناك "خيمة سفارة السكان الأصليين" أيضاً، مشروع الفنان والناشط ريتشارد بيل نفسه، الذي جلس محاوراً ناشطين فلسطينيين وأستراليين، على حد سواء، حول رواياتهم المغيّبة حول التهجير وسلب أراضيهم وصراعهم الطويل والمستمر من أجل البقاء وتحقيق العدالة، من بينهم نوري العقبي. ولوهلة، تشابهت التجارب وامتزجت إلى حدٍّ كان يصعب التفريق فيما بينها.
اللقاء الخامس: توم نيكلسون – نصب مقارن: شلال، على أبواب الجنة، قلنديا الدولي (5–31 تشرين الأول 2016)
في العمل التركيبي للفنان توم نيكلسون هنالك مجموعة من اللوحات المصنوعة من قطع فسيفساء زجاجية براقة وعمل فيديو ثنائي القنوات. احتل العمل الطابق الأرضي من مؤسسة المعمل، حيث اصطفت الأعمال ذات الإطارات الخشبية السميكة على الأرض مستندة إلى جدران القاعة، بينما ظهرت في الفيديو قصة فسيفساء شلالة ومقابلة مع نوري العقبي حول المكان.
وفي العمل "شلال" يعيد نيكلسون إنتاج فسيفساء شلالة المسلوبة من النقب، بمساعدة مركز الفسيفساء في أريحا، من خلال مجموعة من اللوحات التي تعكس كل منها صورة لأحد الحيوانات الواردة في اللوحة الأصلية. غير أن حيوانات نيكلسون هي مزيج مركب من حيوانات من البيئة الأصلية لأستراليا وحيوانات تنتمي إلى البيئة الفلسطينية التي حملتها قطعة الفسيفساء المسلوبة.
في عمل نيكلسون نقاط التشابه ما بين تجربتي الاحتلال الكولونيالي في فلسطين وفي أستراليا كبيرة، وتتجلى وتتداخل إلى حد يصعب فيها التمييز ما بينهما، فالعنف الكولونيالي، من سلب ونهب ومحاولات تهجير مستمرة، هو نفسه، ويحتكم إلى العقلية الكولونيالية ذاتها.بل يعتمد نيكلسون على وقائع تاريخية في فلسطين كان للكولونيالية الاسترالية باعٌ فيها، وساهم تدخلها بشكل أو بآخر في تعزيز قبضة الاحتلال الإسرائيلي على فلسطين ومحاولاته لإعادة إنتاج هوية جديدة للمكان.
لكن نيكلسون في عمله هذا، أعاد لوحة الفسيفساء إلى فلسطين بهيئة أخرى، وإن لم تكن هذه العودة إلى مكانها الأصلي في النقب، ولكنها عودة رمزية تحمل رسالة حول امتزاج تجارب الشعوب المضطهدة إلى درجة من الصعب التفريق بينها، وعن أمل ضروري.
اللقاء السادس: ميجان كوب – "إعادة تكوين"، على أبواب الجنة، قلنديا الدولي (5–31 تشرين الأول 2016)
في صالات العرض لمؤسسة المعمل، أسلك عراقيبَ إضافية، للوصول إلى عمل "إعادة تكوين" للفنانة الاسترالية ميجان كوب. أعادت كوب في عملها هذا، تقديم أكوام فضلات الطعام التي شكلت معالمَ بارزةً في المشهد الطبيعي الأسترالي قبل وصول المستعمر الأبيض. أكوام الفضلات هذه كانت عبارة عن مخلفات طعام السكان الأستراليين الأصليين، وكانت تحتوي، بالعادة، على بواقي الأصداف وعظام الأسماك وغيرها من الفضلات الطبيعية التي يتم خلطها بالتربة، وكانت تتم مراكمتها على شكل تلال بلغ ارتفاع بعضها، مع مرور السنين، ثلاثين متراً. بعد وصول المستعمر الأبيض، أزيلت هذه الأكوام لاستخراج الأحجار الجيرية التي تدخل في صناعة الإسمنت من الأرض لبناء المستعمرات. عمل كوب يشكل أكواماً أصغر حجماً، برزت فيها الأصداف والمحار المصنوعة من الإسمنت واختلطت مع التربة الطينية الحمراء من فلسطين.
العودة
طريق العودة إلى رام الله سهلة، ولم يكن هناك أي داع لتقمص شخصيات أو إعادة تغيير مقاعد في الباص. يوم طويل والجميع متعبون يحدقون في الفراغ. مرت بذهني صور كثيرة في الطريق مثلت حضوراً جديداً لأستراليا في فلسطين، في هذه المرة حضور من دون أدوات الاضطهاد الاستعمارية المعهودة، وإنما عبر تجارب مشتركة وروايات مألوفة لشعبين مضطهدين يتشبثان بالأمل.
عن المؤلفة
رنا عناني هي كاتبة وباحثة في الفنون البصرية والثقافة، ومتخصصة في الإعلام الثقافي حيث عملت مع مجموعة من المؤسسات الثقافية في فلسطين في هذا المجال وشغلت عدد من المناصب بما في ذلك مديرة قسم العلاقات العامة والإعلام في المتحف الفلسطيني ومديرة الإعلام في بينالي قلنديا الدولي. تعمل وتعيش في رام الله.