Publications
كتابة هذا البحر
"اسم الجدّة | عن العمل الفوتوغرافي "مراية تيتا" لرندة شعث، من معرض "أهل البحر
مجد كيال
في معرض "أهل البحر" غابةٌ فوتوغرافيّة من ماء؛ بحارٌ واسعةٌ وأجسادٌ مبلّلة، حواجز زرقاء وهميّة وسط الفراغ، وتاريخٌ في براميل الحديد. توثيق معماريّ واستعراض اجتماعيّ وعطش أجسادٍ متصحّرة. ووسط هذا كلّه، نجد لوحة مختلفة واحدة، دون رهبة الطبيعة أو حضور الواقع السياسيّ الفجّ، دون التركيز العميق بتفاصيل الملامح الإنسانيّة، ولا التناقضات الحادّة الصارخة، ودون أي تكلّف لكسر حضور الألوان الباردة. ببساطة: صبيّةٌ تلتقط صورة نفسها في مرآة.
لا حاجة لنا لقراءة العنوان الذي منحته رندة شعث لعملها الفنّيّ "مراية تيتا"، لنقرأ مسألة الأجيال وهي تنسلُّ إلينا: مرآة بإطارٍ سُفليّ من الخشب الثخين، وعُلويّ من الحديد الرفيع الصدئ، مُعلقة بمسمارٍ على حائط سيراميك متآكل الأطراف. وصبيّة تلبس بلوزة بيضاء خفيفة دون أكمام، ترفع شعرها دون تكلّف، وعلى عينيها نظّارات، تُغطي وجهها كاميرا (Canon) رقميّة، تنظر من خلالها إلى المرآة وتلتقطها. وفي المرآة، بتقنيّة تركيبٍ ما، بحرٌ ينكسر على صخرة.
تدفعنا الفوتوغرافيا أحياناً، أكثر من غيرها، إلى الاهتمام بالصورة ليس من حيث وجودها كمنتوج فنيّ ساكن، وإنما كلحظة التقاط كان يُمكن لنا أن نكون داخلها؛ لحظة التقاطٍ تختلف عمّا كانت فيه ثانية واحدة قبلها، وثانية واحدة بعدها. إنها تجبرنا، أكثر من غيرها، أن نفكّر بالصورة داخل سياقها المتحرّك. وعليه، يُمكن لنا التفكير بهذا العمل الفنيّ كلوحةٍ ثنائيّة الأبعاد جامدة، ويُمكن لنا، من جهةٍ أخرى، التفكير بلحظة التقاطها الواقعيّة. وحدها العين تستطيع أن تلاحظ هذا الفرق: في اللوحة الجامدة المعلّقة نرى امرأةً داخل مرآة، أما في الواقع الذي تلتقطه الصورة فنرى امرأةً مقابل مرآة. هذا الفرق بين "داخل المرآة" و"مقابل المرآة"، يشكّل المساحة التي يناور بها هذا العمل الفنيّ: الاحتواء مقابل المواجهة، السيطرة مقابل التمرّد.
لكن لنتحول إلى اللغة، ونسأل سؤالاً وقحاً، يتعدّى على موقف الفنّانة من عملها وتسميتها له: من قال إن هذه التي أمامنا مرآة؟ ما الذي يمنعني، إن كان البحر قد تركّب فيها تقنياً، أن أفكّر في أنّي أشاهد لوحة طباعة رقميّة غريبة من حيث شكل إطارها؟ لماذا لا أعتبرها صورةً صامتةً على الحائط؟ ما الذي يمنعني من التفكير بأن شاباً مثلي يقف ويلتقط صورة لوحةٍ رُكّبت فيها صورة بحر وصخرة ومصوّرة شابّة؟
في هذا التساؤل، تلعب صورة البحر وما تبثّه على صورة الصبيّة، دوراً مهماً في احتماليّ الإجابة. فإنّ وعينا لحضور البحر التقنيّ الغريب المُركّب يذكّرنا، من جهةٍ، بأنه مجرّد صورة ساكنة زُرعت في قلب الإطار، ويشي بأننا نقف عملياً أمام لوحة مطبوعة تُظهر بضعة أشكال. ومن جهةٍ أخرى، فإن هذا البحر يسحب من ذاكرتنا صورة متحرّكة بغزارة –بحر هائج يتكسر على صخرة– تجعلنا نفكّر فيها مشهدياً كلحظة ساكنة في سياق تحوّل دائم، وتشي بأننا نقف أمام مرآة قادرة ليس على إظهار الشكل فقط، إنما حركته أيضاً.
هذه مساحة التباس شائكة ومثيرة، ليس لأنها تأتي في سياق علاقة الإنسان بماضيه، أو الجيل بسابقه، أو الصبيّة بجدّتها وكفى، إنما، وهذا الأهم، لأنها تلتقط لحظة اشتباكٍ نفسيّ إنسانيّ. إنها تستحضر، وبقوّة، طورين يقدّمهما التحليل النفسيّ (عند لاكان تحديداً)؛ "طور المرآة" من جهة، و"اسم الأب" من جهةٍ أخرى. بين رؤية الصبيّة لنفسها بالمرآة والتقاطها لكليّتها من جهة، بكل ما يعنيه هذا من مخيلةٍ متدفّقة ونرجسيّة شرسة وحضور يبدأ بالاكتشاف وينتهي بالإعلان عن الذات. ومن جهةٍ أخرى إطار الجدّة الذي يمكن له أن يضبط حركتها، يجمّدها، يحوّلها لوحة ساكنة – اسم الجدّة: النسخة الأنثويّة، قد نقول، عن "اسم الأب" اللاكانيّ، عن لحظة بناء اللغة والأيديولوجيا، التورّط في الدور الاجتماعيّ، والانحباس في سجن الثقافة واللغة. أما الاستعارة، فتضرب بخفةٍ وخلسة: بحرٌ ينكسر على صخرة، ماء سائل يصطدم بالثابت الصلب. صخرةٌ لونها، بالمناسبة، من لون الإطار الخشبيّ القديم التابع للجدة. وفي ترتيب عوامل الصورة، فإن الصخرة أمام الصبيّة، تُغطي جزءاً منها، بمعنى أن الصخرة أقرب إلى الخارج، إلى إطار المرآة، أما صورة الصبيّة فأقرب وأكثر انسجاماً مع صورة البحر.
تحضر هذه المواجهة، أيضاً، في التناقض بين أداة انعكاس قديمة وأداة انعكاس جديدة. أداة الانعكاس القديمة مرآة مهترئة، معلّقة على جدار، على مبنى من المادة الصلبة – السيراميك، ولا يرمز ذلك إلى تعلّق شخصيّة الجدّة بالمبنى الاجتماعيّ واستنادها إليه فحسب، إنما يرمز، أيضاً، إلى المكان العينيّ –حمّام المنزل وزاويته تحديداً – وهو أعمق بؤر الحيّز الخاص. الجدّة لا تستند إلى المبنى فحسب، بل إلى موقعها الحبيس الذي لا تستطيع أن تخرج منه، ولا لتحظى بحريّة أن تمارس حميميّتها في الحيّز العام، ولا بحقّها في المشاركة في السيطرة عليه؛ موقع النساء في مجتمع قمعيّ. أما أداة الانعكاس الجديدة، فهي كاميرا رقميّة متطوّرة بعدستها النهمة، لكنها محمولةٌ ليس على السيراميك الصلب، وإنما على يدين من لحمٍ ودم، على يدين حيتين متحرّكتين، ويسندها رأسٌ فيه عينان وعقل بما يحمله من معرفة وأفكار خفية، ولا يفصل بينهما إلا أداة تبئير: نظّارة. كل واحدٍ من هذه العوامل التي ينكسر فيها الضوء، تستطيع أن تُعبّر عن مركّب من مركّبات الشخصيّة التي تلتقط الصورة. فإن عينيها ليستا بريئتين مكشوفتين للضوء الحقيقيّ. هناك نظّارة، تستحضر، غالباً، وببساطة، الشخصيّة المثقّفة والعارفة، تلك التي تستطيع أن تعترف بقصر نظرها، فتستخدم أداة تبئير للسعي خلف المعرفة التي تهذّب المخيّلة وتروّضها، على أن تُصبح أداة التبئير هذه (النظريّة، البحث العلميّ، القراءة الأكاديميّة) مع الوقت جزءاً من عقلها، تماماً كما تُصبح النظّارة جزءاً من وجه الإنسان. أما الكاميرا فلا، إنها ما نمتلكه من أداة تقنيّة لنلتقط بواسطتها صورة عن (ما نعرِّفه بـ:) الواقع. إن الكاميرا، وسط هذا البحر في المرآة، تبدو كأنها تصطاد صورةً عن الواقع، لكنها تفشل في أن تلتقط أي شيءٍ غير نفسها.
إن حضور الكاميرا، بشكلٍ أو بآخر، فضّاح. إنه يكشف حقيقة ما يُراد له أن يبدو كأنها علاقة طيّبة بين صبيّة وجدّتها، علاقة انعكاس متكافئة. لكنّ الكاميرا تبدو وسط هذه العلاقة الطيّبة كأنها آلة صيدٍ وسيطرةٍ سوداء تمتلكها الشخصيّة دون أن تصبح جزءاً منها، وتكشف من خلالها نيّتها في أن تُسيطر، وأن تتحوّل إلى إطار بحدّ ذاتها للواقع، وأن لونها، مرةً أخرى، من لون الإطار الخشبيّ. إنّ وثبة أكتاف المصوِّرة إلى الأمام ليست تحيّةً للمرآة، ولا محاولة لرؤية الذّات بشكلٍ أعمق، إنما محاولة لاصطياد الصورة، ومحاولةً لزيادة السيطرة على التاريخ: إذا كانت مرآة جدّتي تستطيع السيطرة على البحر والطبيعة، فأنا أستطيع أن أسيطر على البحر والطبيعة وعلى مرآة جدّتي في الوقت ذاته.
ولأنّ حضور الكاميرا فضّاح، ويكشف عن أن الشأن المركزيّ ليس العلاقة بين البنت وجدّتها، وإنما حضور البنت في مرآة جدّتها، فإنّ شعث وهي تطلب منّا أن نراها، تفرض علينا أن نراها دون نقديّة، دون زاويةٍ مختلفة وأخرى، إنما تطلب منّا أن نراها من حيث تقف هي الآن وتلتقط الصورة – أن نقف في صفّها بمواجهة جدّتها. نحن الحاضر في مواجهة تاريخه.
لو بحثنا عما تقوله هذه الصورة عن التاريخ، لما وجدنا التاريخ البشريّ إلا امتداداً من زمن التمرّي في الماء (أسطورة نرسيس مثلاً) حتّى زمن صناعة المرآة، إلى زمن صناعة الصورة الرقميّة. بكلمات أخرى، يوصف التاريخ باعتباره تسلسلاً لأدوات رؤية الذات: مراحله هي مراحل تطوّر أدوات رؤيتنا لأنفسنا (وعلاقتنا وإدراكنا لأنفسنا)، هي التغيّر في ميكانيكيّة طور المرآة اللاكاني. لذلك، فإن التاريخ الذي نلتقطه، في الوقت ذاته، يعكس دائماً صورتنا في الحاضر الذي نقف فيه ونلتقط منه.
لقد صادفنا هذا العمل داخل المعرض الفوتوغرافيّ "أهل البحر"، (وقيّمه المصوّر الفوتوغرافي محمّد بدارنة)، الذي يترك الأرض جانباً، بشكلٍ واعٍ، ليبحث عن كل ما تعنيه فلسطين من شظايا اجتماعيّة وجغرافيّة، وحتّى تاريخٍ منكوب وعودة منشودة، من خلال علاقة الإنسان الفلسطينيّ بالبحر. هذا سياق يحكم الصورة، وبخاصة من حيث أنه ينسجم مع ما كتبته شعث عن عملها، ويحمّل الحضور التاريخيّ المجرّد في هذا العمل بعداً مكانياً وزمانياً أكثر وضوحاً. وربما العكس، ربما تكون هذه الصورة تحديداً، مقدمةً مجرّدة من ملامح المكان العينيّ، لتشرح البنية الفكريّة والهاجس الفنيّ من وراء كل الأعمال مجتمعةً: إنها محاولتنا لرؤية تاريخنا الفلسطينيّ من لحظة الحاضر التي أقف فيها، وأستطيع تخيّل المصوّرة تقف معي، بجانبي ومكاني، ونلتقط معاً أنفسنا – لكن هذه المرّة بعيداً عن صلابة الأرض، وبعيداً عن الأذرع المفتولة وهي تحمل المعاول. نلتقط أنفسنا في مرآة البحر السائلة المتحرّكة المتسامحة، هذه ليست صورة الجدّ بشاربيه وعبوسه. هذه مرآة الجدّة التي تحتوينا. هذه قراءة أخرى لفلسطين، تُعبر عنها صورة شعث، ويُعبّر عنها المعرض بكليّته – قراءة مائيّة تحاول أن تتقدم بنا إلى مُحيط مفتوح ما، رغم هول التحجّر الذي نعيشه.
عن المؤلف
وُلد مجد كيّال في حيفا عام 1990 لعائلة مهجّرة من قرية البروة. درس الفلسفة في الجامعة العبريّة في القدس، ونشط في عددٍ من الحملات والمشاريع السياسيّة. في العام 2016 حصلت روايته الأولى "مأساة السيّد مطر" على جائزة عبد المحسن القطّان للكاتب الشاب، وفي العام 2017 صدرت له دراسة سياسيّة بعنوان "كيف يتغيّر النظام الصهيونيّ؟". يكتب وينشر نصوصًا بحثيّة، سياسيّة وثقافيّة في عدّة مواقع وصحف عربيّة منها "السفير العربيّ"، إضافةً لمدوّنته الشخصيّة التي يكتبها منذ العام 2010.